ليس هناك أحبّ إلى النفس من كلمة حقّ تقال، وموقف وفاء يعلن، يكبر ذلك في حقّ جيل أعطى الكثير لأمته، ولم يأخذ شيئاً ذا بال، بل كان جزاؤه الصّدود، والتناسي، حتى صارت في هذه السنوات الأخيرة تمرّ الذكريات الخاصة بوفاة بعض أعلامنا الفكرية في صمت مطبق، في حضور ضجيج حزبي، وانتهازية سياسية وإعلامية، ومن بين هؤلاء: المفكر والأديب والمصلح الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م) وإن كان الشيخ غنيا عن التعريف بالنسبة لجيله ولاحقه، ولبعض الباحثين والمثقفين، فهو يكاد يكون مجهولاً بالنسبة لأغلبية من قراء العربية في الوطن العربي.
• جلبت لكم بعض كتابات العلامة نشرت في العدد 69 من جريدة ( البصائر) ، 28 فيفري سنة 1949
سجع الكهانهذه فصول، إن لا تكنْ فيها روح الكاهن ففيها من الكاهن سجْعُه، و إن لا يَجُلْ في جوانبها صَدَى الكهانة ففيها من ذلك الصدى رَجْعه؛ فيها الزمزمة المفصحة، و التعمية المبصرة، و فيها التقريع و التبكيت، و فيها السخرية و التنكيت، و فيها الإشارة اللَّامحة، و فيها اللفظة الجامحة، و فيها العسل للأبرار، و ما أقلَّهم، و فيها اللسع للفجار، و ما أكثرَهم، فلعلها تهزُّ من أبناء العروبة جامدًا، أو تؤزُّ منهم خامدًا، فنجني شيئاً من ثمرة النية، و نغيِّر أواخر هذه الأسماء المبنيَّة.
و في هذه الفصول من لبوس الألفاظ ما يَعُدُّه المتخلفون من كتابنا غريبًا، و ما غرابته في أذواقهم، إلا كغربة الأعلاق النفيسة في أسواقهم؛ و لو حفِظوه ووَعَوْا معانيه و أقروه في مواضعه من كلامهم، و أحسنوا إجراءه في ألسنتهم و أقلامهم - لأحيَوه فحيوا به، ولأصبح مأنوسًا لا غريبًا، و أصبحوا به من لغتهم قريبًا؛ و لكن أعياهم الإحسان، فعفّروا في وجوه الحسان، و عجزوا في جني الثمرة عن الهصْر، فرضُوا من اللغة بما يباع في " سوق العصر" (1)
منشئ الفصول ********
" نحن الكهان، أفراس رهان. منّا السابق المصلى، و منّا الآبق المولى. كنّا إرهاصًا للنبوة، و دليلًا للضعف إلى القوة، فلما جاء الحق، و حيص (2) الشق - اندحرنا و انجحرنا، فلما عادت الكسرويّة إلى شرائعها، و القيصريّة إلى ذرائعها، آن أن نعودَ إلى الإنذار، و نصرخ في وجوههم: حذارِ حذارِ، إن بطش الله لشديد،و إن الحرير قد يفلّ الحديد".
كاهن قديم. ***********
" الكاهن، لا يُدارى و لا يداهن، كلامه رمز، ليس فيه لمز. عاذ غيره بالتصريح فعاد بالتجريح؛ و لاذ هو بالكهانة، فأمِن المهانة. كان... فكان الزّاجرَ الرّادِع، للفاجر الخادع، و كان... فكان نذير السارق و المارق، و الخاتل و القاتل، و المحتال و المغتال، و القاذف و الحاذف، و المبتهر و المبتئر (3) . تجف قلوبهم إذا نوفروا إليه، و تجفّ لهَوَاتهم إذا وقفوا بين يديه، لاستتارهم بالعيب، و استهتارهم بالغيب، فلما جاء " محمد " بالحق فاء الناس إلى ضمائرهم، و حكموا هدَيه في سرائرهم، و ردُّوا الغيب إلى عالمه فاستراحوا؛ و لكنهم اليوم عادوا إلى الجاهليَّة، و تقلّبوا في أرحام حنظليّة و أصلاب باهليّة، فماذا نصنع ؟ أنتقدّم منذرين، أم نتأخّر معتذرين ؟ بل نُحي الاسم، و نُميت- كما أمات الإسلام- الرسم" .
كاهن عصري. *************
" كلام الكاهن ليس بالواهي و لا الواهن، كأنما وخزه الماء، أو لمستْه السماء، ففيه من الماء إيراق ، و فيه من السماء إشراق. شارف مكامنَ الغيوب و لَمَّا .... وورد معين العربية فورد جمًّا. عمر صحائف من ديوان العرب ، و كان من شعرهم كالكرب من القَرَب (4) ، بل كان هو الشعر في أول أدواره، و كان قارعَ باب البيان و فارعَ أسواره...اصطنع الكهان السجع ليروقوا السامع و يروعُوه، و ليسهل على الناس فيحفظوه و يَعُوه. و لهم في حوْك الكلام مقامات حِسان، أخذ منها ابن دريد و الهمذاني في تلك المقامات الحسان. سبقوا في السجع فما سبقتهم إلا الحمائم، و أخذوه طبعًا فما لحقهم فيه صنعًا إلا " بعض ذوي العمائم" . و ما عدا هذا من الأسجاع، فهي غُصص تتبَعُها أوجاع".
كاهن أديب. ****************
لا أقسم بذات الحفيف، و الجناح الخفيف، المشارفة في جوّها للكفيف(5) و بالسر المودع في التجاويف و التلافيف، و بالمغيرات صبحًا عليها التجَافيف، و المغيرين على الحق كالعاهر ابن العفيف (6) . و بالسابغات و السوابغ من الدروع و الجلابيب , و بالآخذين أمس من تلّ أبيب بالتلابيب ، و بالبحر و السفينة ، و الحبر و " الدفينة" (7)، إن أبا الطيب المتنبي لمَن موالينا، و ممن تلقّى الكهانةَ عن أوالينا و إنه ما دُعي بالمتنبي (8 ) إلا لأنه كان شاعراً كاهناً، ليناقض النبي الذي لم يكن كاهنا و لا شاعراً ، و قد نُفِيا عن النبي مجتمعيْن، فثبتا في المتنبي مجتمعيْن، و إن كثيراً من شعره كهانةٌ ملتفِّعة بالشعر , يُوطّيها في جُمل، و يُغطيِّها بممدوح أو جَمَل ، و ستظهَر أخباؤها ، و تُعلم أنباؤها ... و إن قوله: وقعتْ على الأردنِّ منه بليّةٌ ، هو من الكهانة الكاهنة , (بالحالة الراهنة) . قالوا أراد أسداً قانصًا ، و قلنا أراد رجلا ناقصًا. قالوا: أراد كلبًا ، روع قلْبًا، و مزَّق خِلبًا ، و أوسع المهج سلبًا، و قدم ضراغمة غُلبًا، أوطنها غابات غُلبًا و ذاد عنها أشاوس غُلْبا , قلنا : إنما أراد رجلا ركب صعباً ، و باع شعباً ، و عقَّ لؤيّاً و كعْباً، و سلك بنو أبيه شِعباً، و سلك وحده شِعبًا، و خذلهم في الجلى فملأ القلوب رعباً، و اشتفَّ صُبابة المال، فلم يدع لبائس حلسا و لا لبائسة قَعْباً.. لم يُرد أسداً خادراً ، و إنما أراد رجلا سادراً ، يظهر في زمن نحس، و يبيع ضفّتي الأردن بثمن بخس، و أين ليث عفَّره بدر بسوط، من شخص كفَّره صدْرٌ بنوط.
أيتها البُحيرة (9) ، مالك في حيرة ؟ لقد شهدت لبدر بن عمّار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوة ؟ ... و حدّثي الولي يا ( ولية )، أيهما كان عليك بلية، ذاك الذي وردك زائراً ، أم هذا الذي وردك خائراً ؟ إنهما لا يستويان ، ذاك أسد غاب، رِزقُه في الناب ، و هذا حلف وِجار، رزقه على الجار ، ذاك يعيش على فرائسه ، و هذا يعيش على فضلات سائسه ، ذاك رمز إقدام ، و هذا موطئ أقدام، ذاك ورد الفرات زئيرُه ، و هذا جاوز الفراتَ تزويره ، ذاك مشغول البال بتربية الأشبال، و هذا مشغول ... بعُرْس الغول .
أيها الصاعد في العقبة ، المجاحش عن خيط الرقبة ، البائع لجار السوء صقَبه ، لا يكن صوتُك الصيت ، و لو أحييت البحر الميت .
أيها الخاذل للغزَّى (10) ، ما أنت لهاشم ... إنما أنت لعبد العزّى ، أغضبت سَراة الحيّ ، و أزعجت الميت منهم و الحيّ ، من لؤيِّ إلى أبي نُمَيّ . فويحَك ، أما تخاف أن تهلك ، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك .
كاهن الحي.
ـــــــــــــــــــــــ
1. سوق العصر عند العامة هو السوق الذي تُباع فيه الأشياء القديمة المستعملة ( الخردة و الأسقاط ).
2. حيص خيط ، و منه المثل: أن دواء الشق أن يحاص.
3. الابتهار ادعاء الفاجر الفجور كاذبا، و الابتئار ادعاؤه صادقا.
4. حبل يشد في عراقي القربة.
5. السماء لأنها مكفوفة.
6. ابن العفيف التلمساني، له نزعات شاذة في الاعتقاد.
7. طعام معروف عند اليهود.
8. بدر بن عمار الذي قتل الأسد.
9. المراد بحيرة طبرية.
10. جمع غاز.ولمن يريد قراءة الكتب، هذا كتاب لفضيلته بعنوان
"آثار الإمام البشير الإبراهيمي"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]عنوان الكتاب: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي
المؤلف: أحمد طالب الإبراهيمي
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: دار الغرب الإسلامي
سنة النشر: 1997
عدد المجلدات: 5
رقم الطبعة: الطبعة الأولىللتحميل، إليكم المواقع < تقتح بال pdf >
المجلد الأول:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]المجلد الثاني:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]المجلد الثالث:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]المجلد الرابع:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]المجلد الخامس:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]أختي نورة تقبلي مروري و مشاركتي المتواضعة في موضوعك المتميز[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]